نور الدين الصايل.. عقل السينما المغربية وعرّاب نهضتها

في الخامس عشر من ديسمبر عام 2020، فقدت الساحة الثقافية المغربية والعربية واحدًا من أبرز رموزها، برحيل المفكر والناقد السينمائي نور الدين الصايل، الذي ارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بنهضة السينما المغربية والأفريقية. وُلد الصايل في مدينة طنجة عام 1948، في بيئة منفتحة على الثقافات العالمية بحكم موقع المدينة الجغرافي وتاريخها الدولي، وهو ما أسهم في تكوين شخصيته المنفتحة وإتقانه للغات الإسبانية والفرنسية إلى جانب العربية الفصحى. منذ طفولته، عشق السينما والفلسفة معًا، وتردد على قاعات العرض السينمائي، قبل أن ينتقل إلى الرباط لدراسة الفلسفة، ليصبح لاحقًا أحد أهم المؤطرين الأكاديميين لمادة الفلسفة في المغرب.

بدأ الصايل مسيرته الإعلامية عبر التلفزيون المغربي في برامج مثل سينما منتصف الليل وسينما الأحد، حيث قدّم لجمهور واسع روائع السينما المصرية والسوفياتية والفرنسية، مربيًا أذواق الشباب ومرسخًا ثقافة سينمائية عميقة خلال سنوات السبعينيات التي تزامنت مع مرحلة سياسية وثقافية حساسة في المغرب. تزامن نشاطه السينمائي مع انخراطه في التيار اليساري، حيث مزج بين النضال الثقافي والسياسي والفني، وهو ما جعل اسمه حاضرًا في كل النقاشات الفكرية والفنية الكبرى في تلك الحقبة.

أسس الصايل عام 1973 الأندية السينمائية المغربية، التي تحولت لاحقًا إلى الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، وكانت مدرسة حقيقية لتكوين جيل من النقاد والمخرجين والإعلاميين الذين ساهموا في ترسيخ حضور السينما كرافعة ثقافية وفكرية. هذه الأندية لم تكن مجرد فضاءات للعرض، بل مختبرات فكرية لنقاش القضايا الوطنية والعربية والعالمية، خصوصًا القضية الفلسطينية، مما منحها طابعًا نضاليًا إلى جانب بعدها الفني.

عام 1977، أسس الصايل مهرجان السينما الأفريقية في خريبكة، الذي أصبح أحد أعرق المهرجانات السينمائية في المغرب وأفريقيا. تحولت خريبكة بفضله إلى قبلة للمبدعين والمفكرين من مختلف دول العالم، حيث استقبل المهرجان أسماء كبرى مثل صلاح أبو سيف وتوفيق صالح والطاهر شريعة وإدغار موران، إضافة إلى مخرجين أفارقة بارزين كسليمان سيسي وأصمان صمبين. هذا المهرجان لعب دورًا محوريًا في تعزيز ما يمكن تسميته بـ”دبلوماسية السينما”، إذ قرّب بين الشعوب الأفريقية عبر الفن، بعيدًا عن خلافاتها السياسية.

Ad image

تولى الصايل مناصب محورية تركت أثرًا بالغًا في تطور السينما المغربية. فقد شغل رئاسة القناة الثانية المغربية (2M) بين عامي 2000 و2003، حيث ساهم في تحديث المحتوى السينمائي ودعم الصناعة السمعية البصرية. ثم تولى رئاسة المركز السينمائي المغربي من عام 2003 حتى 2014، حيث أحدث نقلة نوعية في الإنتاج السينمائي المغربي، منتقلاً من إنتاج محدود إلى نحو 25 فيلمًا طويلًا وأكثر من 60 فيلمًا قصيرًا سنويًا. كما دعم القاعات السينمائية والمهرجانات، مما جعل المغرب يحتل المرتبة الثالثة في أفريقيا من حيث حجم الإنتاج بعد مصر وجنوب أفريقيا.

كان الصايل مدافعًا شرسًا عن فكرة أن الكم يسبق الكيف، إيمانًا منه بأن كثرة الإنتاج هي الأساس لتطوير جودة الأعمال. كما عمل على جعل المغرب وجهة لتصوير الأفلام العالمية، خصوصًا في ورزازات، المدينة التي تحولت إلى موقع شهير لتصوير الإنتاجات العالمية الكبرى، ما ساهم في إدخال العملة الصعبة للبلاد وتعزيز سمعة المغرب كوجهة سينمائية دولية.

عرف الصايل أيضًا بقدراته الفكرية الفذة في تحليل السينما بلغات متعددة، حيث كان حاضرًا في الندوات والمؤتمرات عبر العالم، محاضرًا ومناقشًا وناقدًا بأسلوب يجمع بين العمق الفلسفي والبساطة. كان يمتلك قدرة نادرة على تحويل أي لقاء إلى درس في الثقافة والفن، جامعًا بين التحليل الفلسفي للسينما ورؤية إنسانية عميقة. وكان يردد دائمًا عبارة “آفة حارتنا النسيان”، في إشارة إلى ضرورة حفظ الذاكرة السينمائية والفكرية وتوثيقها.

حتى سنواته الأخيرة، ظل الصايل حاضرًا في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، محاضرًا وملهمًا للطلاب، مؤكدًا على أهمية التفكير الجماعي في زمن العولمة والتكنولوجيا، وداعيًا إلى إعادة الجمهور إلى القاعات السينمائية لمشاركة تجربة جماعية حقيقية للفن.

برحيله، فقدت السينما المغربية والعربية عقلها المفكر وعرّابها الحقيقي، تاركًا وراءه إرثًا فكريًا وإبداعيًا ضخمًا. ورغم أن كثرة مسؤولياته حالت دون كتابته لكتب توثق أفكاره، إلا أن محاضراته وتسجيلاته المنتشرة تشكل كنزًا ثقافيًا يحتاج إلى التوثيق والتجميع ليستفيد منه الأجيال القادمة. لقد رحل الصايل جسدًا، لكنه ترك بصمة خالدة في السينما المغربية والأفريقية، وإرثًا سيبقى مصدر إلهام لكل من يسعى إلى النهوض بالفن السابع.

Ad image
Leave a comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *