من روسيا إلى العالم… جامعة موسكو تصنع عظماء السينما

في قلب موسكو، حيث تمتزج ذاكرة الفن السوفياتي بأصداء العالم الحديث، تقف جامعة VGIK للسينما كأحد أعرق المعاهد السينمائية في العالم. منذ تأسيسها عام 1919، لم تكن هذه الجامعة مجرد مؤسسة تعليمية، بل كانت مختبرًا حيًّا لابتكار رؤى سينمائية جديدة، ومساحة تأمل جماعي في معنى الصورة والإنسان والزمن. تحت أسقفها القديمة، تدرّب طلاب من مختلف القارات، وخرجوا منها محمّلين بشيء أثمن من المهارة: سؤال كبير عن دور السينما في قول الحقيقة، وفي مواجهة النسيان.

من بين هؤلاء، بزغت أسماء صنعت مجد السينما العالمية، مثل أندريه تاركوفسكي، مخرج “المرآة” و”ستالكر”، الذي جعل من السينما شعرًا بصريًا وتأمّلًا روحيًا. لم يكن وحده. قبله جاء سيرغي أيزنشتاين، أحد أوائل الذين وضعوا قواعد المونتاج السينمائي بحدّة فكرية وجمالية، وقدم للعالم “البارجة بوتيمكين”، الذي لا تزال تأثيراته حية حتى اليوم. تخرج منها أيضًا ميخائيل روم، أحد بناة السينما السوفياتية، ومعه غريغوري تشوخراي، مخرج “Ballad of a Soldier”، الذي نقل الحرب من ميدان المعركة إلى عمق المشاعر الإنسانية.

تلامذة هؤلاء الأساتذة، بدورهم، صاروا أساتذة لأجيال جديدة، في علاقة تبدو أشبه بنسب فني يمتد بالروح لا بالألقاب. داخل قاعات VGIK، لا تُدرّس السينما كمنتج، بل كفلسفة، كأداة فهم ومساءلة، بل كشكل من أشكال مقاومة الزيف. كثيرون مروا من هناك، من الجزائر، من العراق، من المغرب، من فلسطين… لم يكن طريقهم سهلًا، لكنهم حملوا معهم عدوى الرؤية. بعضهم عاد ليُعيد كتابة السينما في بلاده، وبعضهم تاه أو انكسر، لكن الكاميرا ظلّت ترنّ في أيديهم كوصية غير مكتوبة.

الجامعة، التي قاومت تقلبات السياسة وتغيرات الذوق العام، لم تبق جامدة أمام التكنولوجيا. أدخلت تقنيات جديدة، أعادت النظر في المناهج، لكنها ظلت مؤمنة بأن الكاميرا ليست مجرد أداة، بل ضمير. في زمن تزداد فيه التفاهة البصرية، كانت VGIK تُعلّم تلامذتها كيف يصمتون قبل أن يصوّروا، كيف يشاهدون العالم بأناة، وكيف يسألون كل لقطة: لماذا؟

Ad image

إن التخرج من VGIK ليس نهاية الرحلة، بل بدايتها. أن تكون أحد خريجيها يعني أنك تحمل مسؤولية تجاه الصورة، تجاه المعنى، تجاه الإنسان. في زمن السرعة، لا تزال هذه الجامعة تعلم كيف نبطئ، كيف نصغي، وكيف نمنح للمشهد حقه في أن يُقال كما لو أنه للمرة الأولى.

Leave a comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *