في نهاية عام 1984، شهدت قاعة المناسبات ببلدية روما حضوراً كثيفاً من الزوار والباحثين وعشّاق السينما، وذلك لحضور لقاء خاص استضافته البلدية، وكان ضيفه المخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي. ببساطة لافتة، ارتدى تاركوفسكي قميصاً أبيض وبنطال جينز أزرق، ووقف على المنصة ذاتها التي شاركه فيها 13 مخرجاً آخر، ليخوضوا نقاشاً جماعياً حول السينما وفلسفتها.
بعد انتهاء محاضرته، فتح تاركوفسكي المجال للجمهور لطرح الأسئلة. أحد الحاضرين توجه إلى المايكروفون ليسأله عن السبب وراء اختياره صنع فيلم المرآة بين سولاريس وستالكر. لم يفهم تاركوفسكي السؤال تماماً، لكنه أجاب بجملة مختصرة وعميقة:
“السبب الوحيد لتوقيت أي فيلم صنعته هو أنني أردت صناعته في ذلك الوقت. لم يجبرني أحد. أنا أصوّر متى أشاء.”
تلك الإجابة البسيطة كانت مدخلاً لفهم جوهر فلسفة تاركوفسكي السينمائية، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشعر، ليس بوصفه فناً أدبياً، بل كحالة شعورية ووسيلة للتواصل مع العالم.
“إن الشعر هو الوعي بالعالم؛ بل طريقة خاصة للاتصال بالعالم.”
— أندريه تاركوفسكي
في السينما الشعرية، يتخلى المخرج عن السرد التقليدي الخطي، ويعتمد على خلق مشاعر عميقة من خلال الصورة والصوت. هنا لا يصبح الهدف مجرد حكاية تُروى، بل تجربة حسّية يعيشها المتلقي، فيفهمها بقلبه قبل عقله.
هذه المدرسة الفنية تنتمي إليها أعمال كبار المخرجين مثل إنجمار بيرجمان، تيرينس ماليك، وأليخاندرو غونزاليس إيناريتو. ومن أبرز النماذج المعبرة عنها فيلم طعم الكرز للمخرج الإيراني عباس كيارستمي، الذي يبدأ بقصة رجل يبحث عن من يساعده في تنفيذ انتحاره، فيقلب التوقعات ويركز على الدوافع الإنسانية والروحية خلف رغبته تلك.
كان كيارستمي يعتبر الشعر جوهر رؤيته الإخراجية، حتى وصفه المفكر حميد دباشي بـ”أول شاعر بصري في الأمة”. فبالنسبة له، كانت السينما وسيلة لطرح الأسئلة لا الإجابات، ولاختبار التمثيل لا كأداء مصطنع، بل كسلوك بشري صادق.
وفي عام 1965، قدّم المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني بياناً بعنوان سينما الشعر، شدد فيه على أن لغة السينما –في جوهرها– لغة شعرية، لكن ممارستها انحرفت نحو السرد النثري التقليدي. بازوليني دعا إلى العودة إلى البعد الحسي والتجريبي في السرد، حيث الصورة قادرة وحدها على خلق معنى شعري.
إن تاركوفسكي وكيارستمي وغيرهم لم يكونوا مجرد مخرجين يروون حكايات، بل شعراء يستخدمون الكاميرا بدلاً من القلم، ليخلقوا عوالم تتحدث بلغة الصورة والصمت والضوء والظل.

